الثلاثاء 11 يونيو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

من أمراض الروح.. «التيه» مفرح سرحان

مفرح سرحان
ثقافة
مفرح سرحان
السبت 21/أغسطس/2021 - 05:05 ص

لعل جميعنا يعرف الأمراض والعلل الجسدية وسمع عن العديد من العلل النفسية أيضًا، لكن نادرًا ما تجد أحد قد سمع عن العلل والأمراض الروحية، وهو طرح أدبي وفلسفي نادرًا ما نجد له مثيل، ونحن اليوم بصدد التعريف عن إحدى تلك الأمراض، وهو «التّيه» لا تتعجب عزيزي القارئ، نعم التيه مرضٌ خطير كما صنفه الأستاذ «مفرح سرحان» في كتابه الصعود إلى الروح، وهو كتاب تحار في تصنيفه، يتحدث فيه الكاتب عن الروح وعللها وكيفية تطهيرها، في صياغة أدبية رفيعة المستوى.

يقول الكاتب: التائهون موتى، التائهون أوراق جافة يحملها الهواء إلى متاهات فوق متاهات، التائهون عراة الأرواح، التائهون ضمير مكشوف بخوائه، التائهون مطع القاطع والمانع والمستتر.

التيه وجهان: وجهٌ يضيء ووجهٌ في الظلام يشقى، أما وجه المضيء فمن النور ملامحه، ومن روح عرفت الطريق مباهجه، وأما وجه الظلمة، فمن غياهب النفس السوء، شهوات ملامحه، ومن روح عالقة في مشانق الهوى ضلاله.

متى تتوه الروح؟

ما دمت مسيرًا في فلك، فأنت عبد المسير، ومن سار على هَدْي هدَي، غير أن في أن في أهل العلل من الأرواح، النفس غدارة والعيون زائغة، والقدم تزل، والتقلب طبع القلب، وإلا ما كان الهوى.

الطمع باب اللذة وسيفها في الصدور، وهو المضلل للمسعى والمغلق للمسلك والمغدق للشهوة، والشهوة مصيبة الروح المتنمرة، حتى إذا جاءتها تملكتها بالطيش والقتل والفتك في تيه لا حد له ولا حدود.

وفارق بين تيه الطمع وتيه الخلوات، تيه الطمع تكدس وزحام، كلما كثر العدد قل المدد وصار المداد دما، وتيه الخلوات هدى وونس، تتصحر المسالك فتخضر القلوب وتجف الحلوق فتفيض القامات بالرطب، والروح الغارقة في الشهوة بنت شيطان غايتها الضلال، وغوايتها التسلل والتملق، في تيهها، لا عورة لوقور ولا عزة لأصيل، ولا حرمة لعابد ولا فضل لعالم.

والروح المعتلة بالتيه، وسعها تابوت، وفتحها شر، إذا طافت بمكان ضربه الجن، ولفحته النار، وعافته السكينة، وجافته الرحمة، وفي حضرتها يخشى النور أن يتسلل والعذراء أن تتدلل، والأبواب أن تفتح إلا لمن رغب الفرار.

 من سار خلف الأرواح التائهة تاه 

تقول له من قلب التيه: ما أريكم إلا ما أرى، فلا يرى إلا سرابًا في سراب، وينظر إلى أبعد ما يظن أنه ناظر، فيرتد إليه بصره خاسئا، وتزيد الروح المعتلة على من اتبع هواها، فتقول: ما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فمن أجاب خاب مسعاه، إذ أن السائر على غير بوصلة لا هدف لسعيه، وهو وإن كان في جبروت فرعون، فإنه إلى الغرق مصيره، ولا صرح ينجي الروح التائهة من كشف الغريق، فلا ينفع ارتقاء على بغاء، ولا بنيان فوق وهن، ولا شأن فوق شين!.

وفي ذلك الزمان أرواح تائهة حد الضياع من فرط تيهها صارت محط إلهام، كلما أوحلت في التيه بلغت من القلوب الحناجر، حتى غدت قلادات على صدور العامة والدهماء، من الأرواح التي تاهت في أثر من تاهوا، ويصير التيه للروح مرضًا خبيثًا إذا اقتدت به الأرواح، فينتشر فيروسها في الأنفاس فلا تنفث إلا الخبث، ولا يجنى منها إلا التخلف والرجعية، وهي كخفافيش الظلام لا يقتدي بضلالها إلا كائنات الليل.

والقناع من هول أعراض التيه، فروح العليل به كلما أوغلت في التيه تقنعت خلف وجوه كثيرة، سيدها الشهوة، ودينها المال، وبوصلتها الميل للصغير والكيل للكبير والمفسدة للبشر والحجر.

وحد التيه هو اكتفاء الروح، ولا تكتفي الروح إلا بالقناعة، فهي صهر القناع، وقهر الطمع، وعقار الشهوة، والروح التائهة كأثر الحرب، خراب وأطلال في النفوس التي ضربها الطاعون وشردها في الأنحاء وجردها من سترها.

وعمار النفوس الخربة هو العزل قبل الطهارة، وإعمال المشرط فيما تقيح من جروحها، وما ركد من مياهها، وما فسد من أخلاقها، ولا يستقيم العلاج إلا بالصبر على الألم في التطهير والانتظام في تعاطي مضادات التيه.

ومن مضادات التيه التي تقوم اعوجاج الأرواح، دفعها بالأرواح القويمة التي رزقت حسن الحضور وبشاشة الوجوه وفياض الإبداع.

وعلاج الأرواح المُضِلة هو إضلالها عن ضلالها، والقائم بدرء المفسدة هي الأرواح التي يطمئن الناس إلى حديثها، واعتادوا منها على ما ينفعهم ويمكث في أرضهم.

ومن المضادات دفع القول بالقلم، والضلالة بالإبداع والتشظي بالإثمار، والتفاهة بالثقافة، والخنجر بالريشة، والسهم بالإسهام، والإسفاف بالأصالة، والوقاحة بالفصاحة، والترهيب بالترغيب، والتفجير بالتفسير، والتنطع بالتفقُّه، والتكفير بالتنوير، وظلام التيه بالنور.

ولأن الضلال على غير هدى فإن العلم هو در الدواء، ولا يوكل إلا لمن علم الناس بعلمه وانتفعوا به، وإلا تاه العالم إلا نهايته مجرورًا بالأرواح التائهة إلى ضلال مبين.

تابع مواقعنا