السبت 25 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الغزالي وابن رشد.. جذور الإقصاء والتكفير

الثلاثاء 22/فبراير/2022 - 02:16 م

أيهما أكثر جناية على الحضارة الإسلامية، وهي الجناية التي أعاقت تطور الفكر الإسلامي منذ القرن السادس الهجري، وكانت سببًا في صراع لم ينتهِ لليوم بين الفقهاء والفلاسفة والصوفية؛ هل هو حجة الإسلام الإمام الغزالي (505:420ﻫ) أم الفيلسوف أبوالوليد أحمد بن رشد (595:520ﻫ)؟

أظن أن الإجابة عن هذا السؤال تكشف أبعاد قضية مهمة من قضايا تراثنا الإسلامي، وهي قضية تعارض النقل مع العقل، الشريعة مع الحقيقة، الدين والفلسفة، كما تكشف لنا جذور رفض الآخر والإقصاء والتكفير في حياتنا، وجذور الحرب المنظمة التي شُنت على الفلسفة في العالم الإسلامي منذ القرن السادس الهجري بتأثير من أفكار الإمام الغزالي المعادية للفلسفة.

في حقيقة الأمر، فإن الإمام الغزالي بداية قد ارتكب جناية فادحة في حق الفكر الإسلامي، عندما مارس سياسة الإقصاء والاستبعاد لأصحاب الاتجاهات المخالفة له، وما يمثلونه من قناعات؛ لأنه بطبيعته القلقة غير المستقرة وميله إلى الإفراط في كل شيء، هاجم بعنف في كتابه "تهافت الفلاسفة" العلوم العقلية، وكفر فلاسفة اليونان وأتباعهم من فلاسفة الإسلام، ووجهه كل جهوده النقدية القاسية لهدم مذهب الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي أخذ به الفلاسفة المشائين المسلمين، وأهمهم الفارابي (260 – 339 هـ) وابن سينا (370 – 427 هـ).

بعد ذلك تدخلت السياسة بضيق أفقها المعهود في هذا الخلاف الفكري، ودعمت بالكامل توجه الإمام الغزالي؛ لأنها وجدت أنه يحفظ مصالحها ويحقق أهدافها، ويضمن استقرارها؛ ولهذا تبنت السلطات السياسية في أغلب العالم الإسلامي مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها.

وقد أصبح من المؤكد اليوم دور العامل السياسي في تدعيم ونشر مذهب الإمام الغزالي وإقصاء بقية المذاهب، من خلال الأدلة التاريخية التي أثبتت علاقة الإمام الغزالي بالوزير "نظام الملك" وزير السلجوقيين، وهو السياسي الداهية الذي أسس المدارس الدينية التي عُرفت باسم "المدارس النظامية" بهدف نشر وتقوية المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية، وتغليبهما على المذاهب الأخرى.

في هذا الصدد يقول الدكتور عبد الأمير الأعسم في كتابه "الفيلسوف الغزالي.. إعادة تقويم لمنحى تطوره الروحي"، موضحًا أبعاد العلاقة الوطيدة التي ربطت الغزالي بالوزير نظام الملك:

"إن نظام الملك السياسي وجد ضالته في شخص الغزالي الشاب الذكي الطموح، العارف بعلوم زمانه، ذي الأفكار المتجددة... كان الغزالي في نظر نظام الملك الوسيلة التي يستطيع بواسطتها أن يجعل من هدفه حقيقة، ألا وهو أن يكتسح الشافعيون كل المذاهب الأخرى في العالم الإسلامي، بحيث يصبح لا مكان لعقيدة إلا للعقيدة الأشعرية، وبعد ذلك يمسك بزمام كل الأمور".

لكن بعد رحيل الإمام الغزالي، كتب الفيلسوف ابن رشد في منتصف القرن السادس الهجري كتابه الشهير "تهافت التهافت" ليناقش ويبطل آراء الغزالي التي أوردها في كتابه "تهافت الفلاسفة"، وليُعيب عليه أنه ألف هذا الكتاب من أجل الجدل، لا من أجل الوصول للحقيقة.

ودافع ابن رشد في كتابه عن العقل وعن الفلسفة كأداة صالحة للوصول للحقيقة، وهاجم خصوم الفلاسفة الذين يتهمونهم بالزندقة وجاهر كمعظم فلاسفة الإسلام السابقين، بما بين الحكمة والشريعة من التوافق والاتصال، لكنه أكد في الوقت ذاته على نخبوية الفلسفة، وأنها أعلى غايات الإنسان، وقل من يستطيع أن يبلغ مستواها، ولهذا فإن (الوحي النبوي) يقوم مقامها تجاه العوام وبسطاء الناس.

إلا أن محاولة ابن رشد للانتصار للفلسفة، لم تُفلح في عودة الحياة إلى العلوم العقلية، ومن ثم بعث الحضارة الإسلامية من جديد، بعد أن تدخلت السياسية من جديد في هذا النزاع الفكري؛ فقامت السلطة السياسية في الأندلس بمناصرة مذهب الغزالي على مذهب ابن رشد؛ لتحدث "محنة ابن رشد" وما تم فيها من اضطهاده لشخصه، وحرق لكتبه.

وجدير بالذكر هنا أن الفيلسوف ابن رشد لم يُضطهد وحده في الأندلس؛ فكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والقضاة والشعراء قاسموا ابن رشد نكبته، لأنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل؛ ولأن أصحاب وحكام دولة الموحدين في الأندلس ارتبطوا بمذهب الغزالي مباشرة وتأثروا بأفكاره، وكان مؤسس دولتهم بإفريقيا يوسف بن تاشفين (400 -500 هجريًا) من أكبر المؤيدين للإمام الغزالي.

والآن دعونا نتساءل: ماذا لو لم تتدخل السياسة بضيق أفقها وأهدافها النفعية المباشرة في الصراع الفكري الذي دار بين الإمام الغزالي والفيلسوف ابن رشد، وقامت بمناصرة الإمام الغزالي باتجاهه الصوفي، واضهاد ابن رشد باتجاهه العقلي؟

أظن أنه لو ظل الأمر في دائرة الخلاف والنقاش الفكري بعيدًا عن السياسة، لربما التقى التصوف مع الفلسفة، الحقيقة مع الشريعة، الدين مع الفلسفة، واعترف كل منهم بالآخر وبحقه في الوجود، دون استبعاد أو إقصاء أو تكفير.

فالفلسفة تُمثل البعد العقلي في الإسلام، والتصوف يُمثل البعد الروحي، وكل منهما ينبع من احتياج إنساني أصيل، ويمكنهما أن يتكاملا دون صدام؛ فتبدأ الفلسفة كما يبدأ التصوف بمُسلّمة الإيمان بالله والتأكيد على البعد المفارق والمتسامي للوجود الإنساني، ثم يسعيان معًا لخلق وتطوير منهج مميز للوصول للحقيقة، منهج يجمع بين الحدس والذوق الصوفي والتفكير والبرهان العقلي، ويدفع بالحضارة الإسلامية من جديد نحو الرقي والتقدم.

وما أشير إليه هنا يؤكده الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل (1872-1970 م) في كتابه "التصوف والمنطق"، حين قال إن وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل أعلى مكانة مرموقة يمكن إنجازها في عالم الفكر؛ لأن هذا الانفعال (التصوف) هو المُلهم لأفضل ما في الإنسان.

وبناء على ذلك يمكن القول إن الجناية على الفكر الإسلامي التي أعاقت تطوره وازدهاره بعد القرن السادس الهجري، وأدت إلى تدهور الحضارة الإسلامية، يتحمل مسؤوليتها أطراف أربعة:

الطرف الأول: الإمام الغزالي الذي أخذ بمنطق حديث الفرقة الناجية، المشكوك في صحته عند الإمام ابن حزم والإمام العز بن عبدالسلام، والذي قال بتكفير الفلاسفة، واستبعد أي دور للعقل والنظر العقلي في الأمور الإيمانية والدينية.

الطرف الثاني: الفيلسوف ابن رشد الذي قال بنخبوية الفلسفة، وإن الوحي النبوي يقوم مقامها تجاه العوام وبسطاء الناس، كما أعجب إلي درجة الغلو بأرسطو وبالفلسفة اليونانية، دون أن يُدرك سياقها الحضاري والثقافي وظروف نشأتها، مما أوقعه علي نحو شبه كامل في قبضة الفلسفة اليونانية باستدلالاتها وميتافيزيقاها الخانقة.

الطرف الثالث: السلطات السياسية في العالم الإسلامي التي تبنت منذ ذلك التاريخ، مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها، لأنها وجدت أن مذهب الغزالي يحقق أهدافها، ويحفظ لها استقرارها.

الطرف الرابع: يمثله جموع المشتغلين بالعلوم الدينية والفلسفية، من زمن الإمام الغزالي وابن رشد إلي اليوم.

وهؤلاء  يتحملون النصيب الأكبر من تلك الجناية؛ لأنهم قاموا باستعادة الصراع الفكري بين الغزالي وابن رشد، وانحازوا لطرف مقابل الطرف الآخر، ولم يكتفوا بخصوم الماضي، بل راحوا يبحثون عن خصوم لهم في الحاضر من أصحاب الاتجاهات الأخرى، ليدخلوا معهم في معارك تستهلك الجهد والوقت، وتعمق الخلاف والعداء بين المذاهب، وقد كان الأجدى بهم أن يبحثوا عن مواطن الالتقاء والتوافق والتكامل، بدلًا من البحث عن مواطن الخلاف وإثارة والصراع.

وأعتقد أن هذا هو الدرس الذي يجب أن يستوعبه اليوم شباب المشتغلين بالعلوم الدينية والإنسانية، الذين يطمحون لأن يكون لهم دور في صياغة مستقبل أوطانهم وأمتهم، عن طريق الفهم الواعي لتراثهم وماضيهم، والرؤية الواضحة لواقعهم.

وعن طريق القناعة الكاملة بأن العقل يجب ألا يعادي الإيمان، والإيمان الحقيقي يجب ألا يعادى العقل ولا الفلسفة بمنهجها القائم علي التحليل والنفاذ إلى ما وراء الأشياء والظواهر الخادعة، وأنهما معًا (العقل والإيمان) يمثلان حجر الزاوية في معركتنا لتحرير الإنسان المعاصر، وتخليصه من كل القوى التي تحاول تشتيته واستلابه روحًا وعقلًا وجسدًا.

تابع مواقعنا