الأحد 19 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

عصر السفنجة!

السبت 23/ديسمبر/2023 - 10:48 م

متابعة الحديث الدائر عن الوضع الاقتصادي في الفترة الأخيرة، تشير إلى الملل من الانغماس في توصيف طبيعة ومسببات الأزمة التي تمر بها الدولة اقتصاديا، خاصة وأن هذه العملية قد استهلكت الجانب الأكبر من النقاشات عن الوضع لمدة جاوزت العامين ولم يعد هناك جديدا يمكن ذكره بشأنها، ويبدو أن الدور جاء أخيرا للتساؤل عن آليات الحل.

وفي تقديري فإن الإطار الذي يتم طرح فيه هذا التساؤل، بتسطيحه أو بفصله عن التوصيف الحقيقي لما نمر به أو بربطه بأحد أسباب الأزمة دون غيره، يفقده الفاعلية المفترضة للتأثير الإيجابي في الظروف التي نعايشها، ويجعل الإجابات عليه مسارا للتساؤل الممتد أيضا أو سببا لمزيد من الأزمات.

فالبحث عن حل يفترض وجود مشكلة تستوجبه والحديث عن هذه المشكلة بربطها فقط بحادث عارض أو مؤثر خارجي، يمثل نوعا من الزعم بأننا كنا نسير بشكل صحيح ثم حدث شيئا ما أخرجنا عن المسار المتبع، وهو بالضبط ما يتم مع الإشارات الكثيرة للظروف الدولية والإحالات للمجهول في توصيف الأزمة.

لكن في الحقيقة بدون أي مزايدة، لم نكن نمضي بشكل سليم وانهمكنا في اقتصاد تمويلي دون أن نعير الاهتمام المطلوب لبناء اقتصاد حقيقي منتج، كما أنه قد غاب عنا فقه الأولويات في وجهات صرف الموارد أو بالتركيز بشكل متزايد على نوعية المشروعات الخدمية التي لا تدر عائد، وتجاهل الاهتمام الكافي لما هو دونها.

ورغم أن توجه "الإحالة للظروف الخارجية" في تفسير الأزمة الاقتصادية منافي للواقع ويحمل تملصا من المسئولية لأسباب سياسية، إلا أنه يرتب انحصار كل الحلول المقترحة في "المُكاركة" و"الاكروباتيات"، بمعنى أنها حلول منفصلة الواقع تماما منهمكة في تأجيل المواجهة، وتكتفي فقط بمواجهة الحرائق المنبثقة عن الأزمة الحقيقية.

آخر مثال حي على هذه النوعية من الحلول، هي قرارات تحجيم الصرف من البطاقات البنكية بالعملة الأجنبية، ففي حين أنها تستهدف مواجهة التشوهات الناجمة عن توافر سعرين للعملة بين السوق الموازي والبنوك، نتجاهل أن نتحرك بشكل مباشر لتوفير سعر واحد، في تغييب واضح لحلول حقيقية للاقتصاد الكلي، وفي وضع أشبه بمقولة " بنعصر السفنجة أو كما يقول الأنجليز:  Penny wise…Pound foolish"

أعلم أن السياسة النقدية معطلة للغاية في ظروفنا، وأن الجالس في منصب محافظ البنك المركزي ليس ساحرا والحلول المتاحة له محدودة للغاية في ظل شح الموارد الدولارية وصعوبة توفيرها، كما سبق أن ذكرت في مقال "مستشفى الأمراض النقدية"، وأيضا بما يتماشى مع مقولة الدكتور محمود محيي الدين، الاقتصادي البارز: « السياسة النقدية في الدول النامية مشتقة بالاساس من السياسة المالية العامة، ومهما أوتي البنك المركزي في أي دولة نامية من قوة، إذا ما انفلتت السياسة المالية يصعب عليه تدبير أمره سواء في السيطرة على التضخم أو تحقيق الاستقرار المالي». 

كما أن حصر التفكير في الـ"حل" على أنه خطوة واحدة أو مجموعة خطوات تنقصنا إن تم اللجوء إليها فسوف تنضبط الأمور، يقتل أي تفكير في إدارة الأمور بفكر سليم، كما أنه يحجم أغلب الأطروحات ويمحورها في علاج الأعراض، دون أي استدامة لها أو مواجهة للمرض الحقيقي.

أما التوجه الذي ينادي به البعض من أن الحل المطلوب يقتصر على "تغيير سياسي"، هو منقوص أيضا، لأنه لا يمكن أن يضمن تغيير سياسي -دون مسار اقتصادي- تحقيق أي طفرة أو تحسن في الظروف، وحتى إن حدث فسوف يكون بشكل مرحلي فقط، نوعا من تمديد فترة احتمال الأزمة أو التهرب من مواجهة المشكلة الحقيقية وتصديرها للأجيال المقبلة.

وهو بالضبط ما ذكرته سابقا في مقال كوكتيل السياسة والاقتصاد، من أن أي حوار سياسي أو تغير سياسي لا يرتب بالضرورة حل أي مشكلة اقتصادية، فبلا أدنى شك أي حوار سياسي يتطرق لآليات السياسة والتعددية والنفاذ للسلطة؛ لكن لا يرتب بالضرورة نجاحا اقتصاديا، ما لم يكن هناك طرح اقتصادي واضح ينطلق بالأساس من فكرة محدودية الموارد.

 

كوكتيل السياسة والاقتصاد


 


ملخص الحديث، أنه لا يوجد مجال لطرح حلول لحظية ممكنة في ظروفنا لا بتغيير توجه سياسي ولا أشخاص، ولا بديل عن إدارة الأمور بشكل قائم على التوافق على دستور اقتصادي، وهو ما تستدعيه الظروف الحالية بشدة، بإتباع مسار اقتصادي متكامل للدولة يبدأ بتخطيط واضح ومحددات يمكن قياسها وخطوات تركن إلى سياسات ونظريات مُجربة، يتوازى مع اعتماد تنفيذ سياسات مالية ونقدية راسخة، لتفادي ما نعانيه الآن من حالة الانخراط في ارتجال مستمر خاصة وأنها تسبب الضرر أكثر من المنفعة.

وخير شاهد على الأمر هو تحركات تركيا النقدية العنيفة مؤخرا والتي دفعت بسعر الفائدة لرقم قياسي، بعد أن تجرعت درسا قاسيا بالانخراط سابقا في سياسات نقدية غير اعتيادية وباتت الآن تسارع الزمن من اجل محاولة إنقاذ ما يمكن انقاذه بالعودة للأعراف الاقتصادية الراسخة.

أخيرا يجب التنويه إلى أنه بما أننا لن نخترع العجلة فلا يجب أن نتبارى في طرح أفكار مستمرة قصيرة الأجل لحل مسارات طويلة الأجل، فمصر لا تحتاج مُبدع أو مُنقذ قدر ما تحتاج لأن نتبنى مسار اقتصادي يؤمن بتنفيذ أبجديات الاقتصاد المتعارف عليها طبقا لنظام اقتصادي محدد المعالم، ودون ذلك فسوف يكون الأمر أشبه بالحرث في الماء.

تابع مواقعنا